يتبع شرح القصيدة "الحماسيّة" في الباكالوريا.
في الشّعر : -د
تتردّدُ عبارة حماسة في مُختلف كتب التّراث من لغة وأدب وكلام وأصول وتاريخ دون حاجة إلى تحديدها أو تفسيرها ، ولذلك تتواتر عبارات من قبيل : بيت حماسة / أبيات الحماسة / شاعر الحماسة... وهذا يُؤكّد أنّ القدامى بمختلف مشاغلهم لم يبدُ لهم معنى الحماسة مُبهما ملتبسا.
إنّ المنزلة الشّعريّة للحماسة محيّرةٌ مُربكةٌ اِنطلاقا من بداهة حضورها في الشّعر ولآختلاف في تصنيفها وضبط مقوّمات وجودها الشّعريّ، وقد أطلِقَتْ على الحماسة تسميات كثيرة ، منها ماهو عام يعبّرُ عن استعمالات حذرة " الحماسة باب من أبواب الشّعر " أي فنّ شعريّ بمعنى فرع .
ولعلّه من فائض القول إنّ "الحماسة" غرض من أغراض الشّعر العربيّ، أو جنسا يُضاهي الجنس الملحميّ عند الغربيّين ( "الإلياذة" و" الأوديسة" للشّاعر اليوناني "هوميروس").
وقد يكون أفضل مدخل لطرق باب الحماسة هو المدخل المعنوي المتّصل بالحماسة موضوعا شعريّا . وهذا ما يُثيرُ قضيّة العلاقة بين الحماسة والأغراض التّقليديّة في الشّعر العربيّ القديم. والغرضُ هو الغايةُ القصوى الّتي من أجلها تنتظمُ القصيدة أو هدفها الأقصى ، وهو هدف ماديّ في الغالب ، وهذا ممّا لا يستقيمُ مع الحماسة الّتي تخدمُ أغراض المدح والفخر والرّثاء و تُؤسّسُ لقيم منشودة .فما الفرق بين الغرض والمعنى ؟
المعنى الشّعريّ هو الفكرة الّتي تتكرّرُ في عدد كبير من النّصوص الّتي كلّما تكرّرت تنوّعت ، فالتّوارد . الحماسة والحرب معنى شعريّ يتكرّرُ بصورٍ مُختلفةها وإن بشكل خفيف تُصياغعلى معنى الحماسة تواردٌ تاريخيّ ،ظلالُ المعنى تختفي تارةً وتظهرُ طورًا ، لكن نواته الصّلبة وتتباين من شاعر إلى آخر ومن ظرف فتتنوّعُ شبكةُ المعاني المُتّصلة بالحماسةتظلّ راسخة ، تاريخيّ إلى آخر ، لكن يُمكن أن نعتبر معنيين فيها هما : الجودُ والبأس ، هما من أكثر المعاني رسوخا وتواترًا. فالحماسةُ شعرٌ يُصوّر نماذج الممدوحين الّذين وقع تَمييزهم بهاتين الخصلتين الّتين هما جُمّاعُ المعاني المدحيّة ومكمن تلازمهما في وعي كبار الشّعراء.
↔المعاني المدحيّة بمختلف أغراضها (الفخر/ المدح/ الرّثاء) إطارٌ شعريّ شديد الملاءمة لبروز المعنى الحماسي في القصيدة العربيّة القديمة . بدأَت الحماسةُ متّصلة بالغزوِ مدار عيش العرب في مجتمع القبيلة والبداوة، وآتّخذت مع العهود الإسلاميّة خاصّة في صراع العرب مع الأمم الأخرى كالرّوم والفرس أبعادًا قوميّة، عَقديّة مرادفة للذّود عن الذّات ووجودها الحضاريّ التّاريخيّ أي هي نابعة من كلّ صنوف تنظيم الصّفوف في اتّجاه الخارج لتكتسي في الأخير بُعدًا أنطولوجيّا (وجوديّا) شبه مُوحّد وهو الدّفاع عن وجود الذّات ضدّ كلّ أشكال الإستعمار والإبادة والفناء، أَلاَ يُبرّرُ ذلك على نحو من الأنحاء مدى أهمّية هذا الشّعر من حيثُ حجم المدوّنة ومن حيثُ أهمّيتها وقيمة محتوياتها وجودتها الفنيّة، وقدرتها على الإستمرار كمشرو ع لا يزال قائم الذّات؟ هو مشروع الذّود عن الحمى وعن تلك الذّات ،ليلتحق شعرُ الحماسة في العصر الحديث بأطروحات الإلتزام والنّضال المبثوثة في مدوّنة الشّعر الوطني الحديث ويغدو تجلّيا من أهمّ تجلّياته . ليكتسب شعرُ الحماسة لِما له من قُدرة قيمة حضاريّة أخلاقيّة تنضافُ إليها قيمتُه الجماليّة الإنشائيّة وقائع شعريّة (تلحيم المعارك البطولة من وقائع تاريخيّة إلى على تحويل
بنشاط الصّراع في أشكاله الحربيّة والأحداث) وهو بذلك ينشطُ . والسّياسيّة المُختلفة
2)بنية الحماسة :
إنّ القول بوجود إنشائيّة خاصّة بالحماسة يُضاهي أغراضيّةَ المدح والفخر والرّثاء والهجاء الّتي وُلدت في محضنها الحماسةُ وتطوّرت من شاعر إلى آخر قولٌ لم يُبتّ فيه بعد ، إذ أنّه ليس من الهيّن إثبات بنية مخصوصة للحماسة، ذلك أنّها ليست غرضًا خاصّا ولا معنى معزولاً عن القول الشّعريّ وعن الأغراض الشّعريّة المألوفة ، بل ربّما يكون الشّعرُ العربيّ كلّه حماسة ، وتكون كلّ أنظمته الخاصّة والعامّة داخلة في باب تركيبها وبنيتها من جهة، وهي من جهة ثانية خاضعة للغرض الّذي يحتضنها وليست فوقه أو منفلتة من إكراهاته .. لذلك ليس من البديهيّ الإطمئنان إلى بنية مخصوصة للحماسة خارج بنية الشّعر المألوفة..ولكن يمكن اِعتبار بعض الخصائص أدوات فنيّة مساعدة على فهم تركيب الحماسة داخل أغراض الشّعر ومنها :
بنية الحرب في شعر الحماسة : -أ
الحماسةُ في شعر أبي تمّام والمتنبّي وابن هانئ تأخذُ مكانها بين الأغراض الشّعريّة البارزة وتقتحمُ المدحَ والفخرَ والرّثاء اِقتحامًا لتُمجّد الأبطالَ ومآثرهم ، وتصفُ الحربَ وما يتخلّلها من مفاجآت وما يعقُبُها من اِنتصارات ويمكنُ تأكيد حضور الحرب في حماساتهم من خلال :
●غلبة المعاجم الحربيّة على غيرها من المعاجم في القصيدة الحماسيّة :
□ يكتسبُ معجم الحرب عند أبي تمّام وابن هانئ والمتنبّي أبعادًا جديدةً فالسّيف يحضر مثلاً عند : أبي تمّام ليُحدّد موقفه من ثنائيّة (السّيف /الكتب) في قصيدته الشّهيرة في مدح المعتصم ، ليتحوّل السّيف من وسيلة قتل وتقتيل إلى أداة لبناء المعنى ، وتأسيس الكيان ، والجواب الشّافي =
أَجَبْتَهُ مُعلنا بالسّيف مُنْصلتا وَلَو أَجَبْتَ بغَيرِ السّيف لم تتُجِب.
والسّيف عند المتنبّي يتّخذ ُعدّة أشكال أَسْمَاهَا عندما يقارن الشّاعر بين السّلاح وسيف الدّولة فيقول =
وإنّ الُّذي سَمّى عليّا لَمُنصِفٌ وإنّ الّذي سمّاه سيفًا لَظالِمُه
وَمَا كلُّ سيفٍ يقطَعُ الهَامَ حَدُّهُ وتقطَعُ لَزْباتِ الزّمانِ مكارِمُه.
ويجعلُ بعد تلك المقارنة السّيفَ عُدّةً لا حلية :
إنّ السّلاح جميعُ النّاس تحملُه وليس كلَّ ذواتِ الْمِخْلَبِ السَّبُع.
وقد اِستطاع اِبن هانئ الأندلسي أن يحوّل أشياء الحرب إلى دلالات قدرةٍ منحها الله للمعزّ لدين الله الفاطمي فلم يعُد حديثه عن ( سيف ) مُتاحٍ بل عن صارمٍ سلّهُ القديرُ العليم في وجه كلّ أعداء الإمام :