خطبة: شهر ذي القعدة
الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعلموا أَنَّ الله فاضَلَ بين مخلوقاتِه، فَفَضَّلَ بَعضَ البَشَرِ على بعض، وفَضَّلَ بعضَ الأماكنِ على بعض، وفَضَّلَ بعضَ الأزمنةِ على بعض. وخَصَّ الأشْهُرَ الحُرُمَ بالذِّكْرِ, فقال سبحانه: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ). أي: فلا تَظْلِمُوا أنفسَكم في هذه الأشهرِ المُحَرَّمَة، لأنها آكدُ وأبلغُ في الإِثمِ مِن غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تُضَاعَف، لقوله الله تعالى: ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )، وكذلك الشهرُ الحرامُ تُغَلَّظُ فيه الآثام. وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله: ( فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) أي: في كُلِّهِن - في كُلِّ أَشْهُرِ السنة - ثم اختَصَّ من ذلك أربعةَ أشهر, فجعلهن حراماً وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِن, وجعلَ الذنْبَ فيهِن أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم.
ومِنْ هذِه الأشْهُرِ المُحَرَّمَةِ المُعَظَّمَةِ شَهْرُ ذي القِعْدة, وسُمِّيَ شَهْرُ ذي القِعْدة: لأن العرَبَ تَقْعُدُ فيه عنِ القتالِ, ويَلْزَمُ الناسُ فيه رحالَهُم استعداداً للحج.
وقَدَ تَمَيَّزَ شهرُ ذي القِعْدَةِ بِبَعْضِ الخصائِصِ التي تَخْفى على بعْضِ المُسْلمين:
أولُها: أنهُ أولُ الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة, وهي: " ذو القِعْدَةِ وذو الحِجَّةِ ومُحَرَّمُ, ورجبُ ".
الثاني: أنه مِن أَشْهُرِ الحَجّ, وهي: شوالُ, وذو القِعدة, وعَشْرٌ من ذي الحِجة. فلا يَجُوزُ لأحدٍ أن يُحْرِمَ بالحجِّ في غيرِها, قال ابنُ عمرَ رضي اللهُ عنهما: " أشهُرُ الحجِّ: شوال, وذو القعدة, وعَشْرٌ مِن ذي الحجة ".
الثالث: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ أربَعَ عُمَر, كُلُّها في شهرِ ذي القعدة. قالت عائشةُ رضي الله عنها: " ما اعْتَمَرَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إلا في ذي القِعْدَة ".
فالعمرةُ الأولى: عُمْرةُ الحُدَيبِيَة, عِنْدما صَدَّهُ المُشركونَ وحالُوا بَينَه وبين الوصولِ إلى البيت، وأنزلَ اللهُ في ذلك سورةَ الفتحِ بِكمالِها، وأنزلَ لهم رُخْصةً: أن يذبَحُوا ما مَعَهُم من الهَدْيِ, وكان سبعين بَدَنَةً، وأن يَتَحَلَّلُوا مِنْ إحرامِهم، فَعِنْدَ ذلك أمَرَهُم رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أن يَحْلِقُوا رؤوسَهم ويَتَحلَّلُوا. وكان ذلك في السنةِ السادِسةِ من الهجرة. وفي هذه العُمْرَة, وقَعَ الصُّلْحُ المَشْهورُ بين النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم, وكفارِ قريش. وهو صُلْحُ الحُدَيْبِيَة. وعَرَفَ الناسُ بِسَبَبِ ذلكَ أحكامَ الاحصار. وهو المقصودُ في قولِهِ تعالى: ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ).
والعمرة الثانية: عُمْرَةُ القضاء, وكان ذلك في السنةِ السابِعةِ من الهجرة.
والعمرةُ الثالثة: عُمْرَةُ الْجِعْرانَةِ عامَ الفتح, أي في السنةِ الثامنةِ من الهجرة, عندَما قَسَمَ غنائِمَ حُنين.
والعُمْرَةُ الرابعة: التي كانت مع حَجَّتِه, وإن كانت وقَعَت في شهرِ ذي الحِجَّة, لكنه عقدَها في آخرِ شَهْرِ ذي القِعدة, وكان ذلك في السنةِ العاشرةِ من الهجرة.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عبادَ الله: اتقوا اللهَ تعالى, وعَظِّمُوا شعائِرَ الله, فإن ذلك مِن تقوى القلوب, واعلمُوا أنَّ العُمْرَةَ في شهرِ ذي القِعْدَةِ, لها مَزِيَّةٌ عن غيرِها, لأن الرسولَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لم يَعْتَمِرْ إلا في ذي القِعدة, وهذا ما جَعَلَ أهْلَ العِلمِ يُفاضِلونَ بينها وبينَ العُمْرَةِ في رمضان, لأنَّ اللهَ تعالى لا يَخْتارُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إلا الأفضلَ والأكمل.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾