كيف هي التّفرقة بين الماهية والوجود في فلسفة ابن سينا
.التّفرقة بين الماهية والوجود في فلسفة ابن سينا
مرحباً زوارنا موقع لمحة معرفة يسعدنا أن نقدم لكم أعزائي طلاب وطالبات الوطن العربي من كتاب الطالب حل السؤال التّفرقة بين الماهية والوجود في فلسفة ابن سينا
الإجابة الصحيحة والنموذجية للسؤال هي
التّفرقة بين الماهية والوجود في فلسفة ابن سينا.
مقالة من تأليف لطفي خيراللّه.
ذكر أرسطو في أوّل مقالة الجيم ممّا بعد الطّبيعة بأنّه يوجد علم موضوعه الوجود بما هو موجود، وهو الفلسفة الأولى1. وهذا التّعريف شأنه أنّه يحتمل تأويلين ظاهرين وهما : إمّا أنّه يُرَادُ بالوجود من حيث هو موجود، الوجود الأتمّ والأشرف في مراتب الوجود كلّها، أي صورة الصّور، والمبدأ الأوّل، والمحرّك الّذي لا يتحرّك في رأي أرسطو، فيحصل أنّ موضوع الفلسفة الأولى لا يخرج عن أن يكون موضوعا جزئيّا مخصوصا كسائر العلوم الأخرى، وإن كان موضوعه هو أكمل من مواضيعها كلّها2.
وإمّا أن يُرَادَ به عموم الوجود الّذي هو سَارٍ في الأشياء كلّها، وهذه الأشياء إذا نُظِرَ إليها فيما يخصّها كانت مواضيع علوم جزئيّة تختصّ باختصاصها، وإذا نُظِرَ إليها فيما يعمّها كلّها، كان ما يعمّها هو هذا الموضوع الأوّل لعلم الوجود بما هو موجود، لأنّه علم لا يفحص في مَوْجُودٍ مَوْجُودٍ من جهة ما هو هو، و في ما يعرض له من خواصّ تلزمه بما هو هو، وإنّما ينظر في الموجود من جهة ما هو موجود، أي أنّه إنّما نظره في وجود الشّيء، لا في الشّيء الموجود. وهذا الطّريق الثّاني في تأويل ما سبق من تعريف أرسطو للفلسفة الأولى هو ممّا كان قد ذهب إليه الشّيخ الرّئيس ابن سينا3.
ولأنّ الوجود ما خُصَّ بكونه موضوعا أوّلا للفلسفة الأولى إلاّ لأنّ كلّ الموجودات إنّما تندرج تحته، وإن كان اندراجها من ضرب غير ضرب اندراج الأنواع تحت جنس واحد، وإنّما فقط كأنّه كذلك4، فهي إذًا كلّها إنّما هي أقلّ بيانا منه، فهو أظهر منها جميعا، فلا شيء إذًا بأعرف من الوجود. وإذا كان لا شيء أعرف من الوجود، فلا شيء قد يعرّف الوجود، ولا دليل عليه إلاّ نفسه، فإذًا الوجود هو بديهيّ، وهو أوّل ما تستحضره النّفس من معنى5. وإذا لم نعوّل إلاّ على هذا المعنى البديهيّ الّذي هو أوّل ما تستحظره النّفس، واقتصرنا على النّظر فيه، فإنّه سوف يتبدّى لنا تبدّيا ظاهر البيان بأنّ الوجود بما هو هو، غير الوجود بنحو ما، وأنّ الأوّل مطلق، والثّاني مقيّد، وتقيّده لا يكون له بما هو هو، وإنّما بما هو وجود مُخَصَّصٌ، وتخصّص الوجود إنّما يعتوره عند انضياف معنى آخر، وهذا المعنى الآخر هو غير الوجود. لكن هذه التّفرقة بين الوجود والمعنى الآخر لم تزل بعد غير التّفرقة الحقيقيّة المقصودة بين الماهية والوجود. من أجل ذلك، فإنّه قبل أن نخصّها بالحديث، فقد توجّب، بادئ ذي بدء، أن ننظر في معنى الماهية :
لماّ نقل العرب فلسفة اليونان ومنطقهم إلى العربيّة، وجدوا عبارتين اثنتين عندهم، وإن اختلفتا في لفظهما، فإنّهما قد بدتا ذواتي معنى واحد، وهما عبارة أوزيا، وعبارة تو استي. وقد غلب نقلهم للمصطلحين ذينك، تارة بعبارة الجوهر، وطورا بعبارة الماهية. وقد قلنا أنّه قد بدتا ذواتي معنى واحد، وبخاصّة عند أرسطو، لأنّه كان قد دأب المعلّم الأوّل أن يستعمل، على نحو سواء، كلتا اللّفظتين، ليدلّ بهما أبدا على معنى القائم بالذّات والمقوّم للذّات. وإن هو ليس كلّ شيء هو قائم بالذّات. وكذلك فإنّ المقوّم للذّات هو لكونه مقوّما لها فهو أيضا أحرى بأن يكون جوهرا6. فليس إذًا أيّ شيء قوّم أيّ شيء فهو أوزيا أو تو اتسي ! فالماهية إذًا عند أرسطو هي معنى عين معنى الوجود مأخوذا في مرتبة من مراتبه يكون فيها في غاية التّقدّم. ولكنّه لمّا تلقّى الفلاسفة المسلمون العبارتين هاتين، وبخاصّة سابقهم والملقّب عندهم بالمعلّم الثّاني، أي الفارابي، فإنّه قد خَصَّصَ معنى عبارة الجوهر من عبارة الماهية، أو في الأقلّ، فإنّه قد حمّل هذه العبارة الأخيرة معنى أعمّ من المعنى اليوناني القديم. فكلّ جوهر فله ما هية، ولكن ليس كلّ ماهية فهي جوهر، وليس يقوّم الجوهر إلاّ جوهر، ولكن ليس لا يقوّم ماهية إلاّ جوهر. إنّ الجوهر هو القائم بالذّات المتحقّق في الخارج، وهو أيضا المقوّم للقائم بالذّات المتحقّق في الخارج. والجوهر إذا كان مقوّما فهو لا يقوّم إلاّ جوهرا، فيسمّى بما هو مقوّم جزء ماهية، والمقوّم كلّه يسمّى ماهية، ويلزمه لأنّه قوّم جوهرا أن يكون نفسه جوهرا. فكون الشّيء ماهية لا تلحقه بالقياس إلى وجوده بإطلاق، وإنّما بالقياس إلى وجوده إلى شيء آخر. لذلك فقد عُرِّفَتِ الماهية بأنّها ما به الشّيء هو هو. فلم يقولوا بأنّها ما به الشّيء يكون غنيّا بنفسه وجودا، لأنّ ذلك كان يردّ معنى الماهية إلى المعنى الأرسطيّ القديم المرادف للجوهر، بل قالوا ما به الشّيء، والشّيء مقولة عامّة، وهي في أضيق معانيها الممكنة الّتي لو رمنا أن لا نجعلها أعمّ من مقولة الوجود كما رامه المتكلّمون المسلمون8، على خلاف اليونان قديما، الّذين إنّما كان مُسَلَّمًا عندهم تساوق الشّيء والوجود، قلت : لو رمنا أن نجعلها كذلك، فهي مُسْتَغْرِقَةٌ لا محالة لسائر مقولات الوجود الأخرى غير الجوهر، وهي كلّها أعراض. فإذًا لنعاود هذا التّعريف الفلسفيّ الإسلاميّ للماهية : إنّه ما به الشّيء هو هو، وإذا قد تبيّن أنّ الشّيء قد يكون جوهرا، وقد يكون عرضا، فإنّه ما قوّم العرض هو أيضا ماهية، أو بعبارة أخرى إنّ ما به عرض ما هو هو، هو أيضا ماهية ذلك العرض. فيخرج معنى الماهية عن معنى الجوهريّة كما كان ثابتا في فلسفة اليونان، ليصير معناها ما به الشّيء هو هو، لا من حيث هو موجود بنحو ما، أي بنحو الجوهر.
والحقّ أنّ ابن سينا إنّما هو عالة على أسلافه، و لا سيّما على الفارابي، في تخليصه معنى الماهية من معنى الجوهريّة. وهذا التّخليص كان طريقا لا مندوحة عنه للوصول إلى التّفرقة الّتي حصّلها ابن سينا بعدها، بين الوجود والماهية. وذلك لأنّه إنّما لمزيّة ذلك التّخليص فقد أمكن أن نوطّئ لميتافيزيقا ذات مرتبة أخرى تخالف مخالفة جوهريّة المصادرة الأولى الّتي انبنت عليها كلّ الميتافيزيقا اليونانيّة، وهي مصادرة أنّه لا حقيقة خارج الموجود، وأنّه لا علم إلاّ بالموجود. فكيف كان ذلك ؟
إنّ كلّ شيء له ماهية، والماهية هي ما به الشّيء هوهو؛ وذلك لأنّه ليس كلّ ما في الشّيء، كان ما به الشّيء هوهو، والمراد بما به الشّيء هو هو، ما لو رُفِعَ حقيقةً أو توهّمًا، ارتفع الشّيء نفسه ليس فقط من حيث وجوده، بل من حيث نفس تصوّره. فأنت اعْتَبِرْ مثلا في ذهنك مُثَلَّثًا، فأيّ شيء هو لو رفعته ذهنا من المثلّث انعدم المثلّث بما هو مثلّث ؟ الجواب : إنّه حقيقة كونه شكلا مسطّحا مؤلّفا من ثلاثة أضلاع ! فالشّكل المسطّح وثلاثيّة الأضلاع عُدَّتَا أجزاء ماهية المثلّث، وتأليفهما هو ماهيته نفسها. وكلّ ما خلا هاتين الصّفتين فلو أنت افترضت ارتفاعهما عن المثلّث فهل امتنع تصوّر حقيقته ؟ كلاّ البتّة ! فلا أحد من النّاس يمكنه أن يدرك ما المثلّث إلاّ إذا أدرك كونه شكلا مسطّحا ذا أضلاع ثلاثة؛ ولكن كم هم أولائك النّاس الّذين وإن أدركوا معنى المثلّث، فهم لا يتصوّرون البتّة صفته كون مجموع زواياه تساوي أبدا زاوتين قائمتين. فهذه الصّفة الّتي إنّما من شأن الهندسيّ أن يبرهن عليها، مهما رام ذهن رفعها عن المثلّث، فإنّ حقيقة المثلّث لَتَبْقَى حاضرة أبدا في ذهنه. فإذًا هذه الصّفة، وإن كانت لا زمة أبدا للمثلّث من حيث هو مثلّث، لكنّها ليست البتّة بمقوّمة لحقيقته بما هو هو.
وبعد أن بينّا هذا الأمر وبسطنا معنى الماهية، لننظر كيف حصّل ابن سينا تفرقته بين الماهية والوجود.
لقد قلنا إنّ الوجود هو معنى بديهيّ وأوّل ما تستحظره النّفس، ولأنّه أظهر الأشياء وأحقّها معرفة، فإنّه قد امتنع بتاتا تعريف الوجود، لأنّه ما التّعريف، ليت شعري، إلاّ تحصيل مجهول بمعروف !؟ وإذا كان الوجود أعرف الأشياء، فلا شيء أعرف منه، فلا شيء قد يعرّفه، فإذًا الوجود لا يُعَرَّفُ. وإذ امتنع تعريف الوجود، فقد بقي سبيل آخر في التّطرّق إليه، وهو طريق التّقسيم. وتقسيم الوجود ذو طرائق كثيرة، ولكن إنّما نحن سنقف عند تقسيمه بحسب مراتبه. إنّ هناك تقسيما أوّلا وكبيرا للوجود بحسب مرتبته، وهو تقسيمه إلى الوجود الذّهنيّ والوجود العينيّ، والوجود العينيّ هو وجوده في الخارج، والوجود الذّهنيّ هو حصول الأمر قائما في الذّهن. و إن كان الأمر حاصلا في الذّهن فهو إمّا أن يكون معقولا، أو متخيّلا، أو مدركا إدراكا حسّيّا مشتركا. وإن كان موجودا في الخارج، فهو إمّا أن يكون مادّة محسوسة، أو جوهرا معقولا، وهذا الجوهر المعقول هو نفسه ذو مراتب، أخسّها جوهر العقل الإنسانيّ، ويتوسّطها العقل السّماوي، وأعلاها العقل الإلاهيّ. وبالجملة، فالوجود لا يخرج عن إمّا أن يكون ذهنيّا، وإمّا عينيّا.
وهاهنا، فنحن نسأل هذا السّؤال : إذا كان شيء ما لِزَامًا عليه أن يكون إمّا في الذّهن، أو في الخارج، فهل معنى كونه في الخارج، أو كونه في الذّهن، هو أيضا جزء مقوّم لماهيّة ذلك الشّيء أم لا ؟ أي هل نَحْوُ وجود الشّيء هو جزء لما به ذلك الشّيء هو هو ؟ الجواب : كلاّ إطلاقا ! وأيسر دليل على هذا الجواب هو أنّه لو كان على خلافه، أي لو كان نحو وجود الشّيء مقوّما لحقيقة الشّيء، وحقيقة الشّيء هي ما به الشّيء هو هو، و قد كنّا قد رأينا أنّ ما به الشّيء هوهو لا يرتفع أبدا، لكان إذا كان شيء ما موجودا بنحو من الأنحاء لاَ مْتَنَعَ أن يُتَصَوَّرَ على خلاف حال وجوده، فيكون إذا كان موجودا في الواقع فهو يكون ممتنعا عليه أن لا يوجد كذلك أبدا، وإذا امتنع عليه أن يوجد كذلك أبدا، فإنّه بطريق الأولى ألاّ يكون إلاّ موجودا على ذلك النّحو أبدا، فتصير كلّ الأشياء أبديّة الوجود وهو خلاف الظّاهر من أمر كثير من الأشياء. إنّ هذا الجواب القريب الأوّل. ولكن نزيد عليه هذا الجواب الفلسفيّ الثّاني :
لقد ذكرنا أنّ ماهية الشّيء أو جزءها المقوّم لها هو ما لو افترضناه مرتفعا ارتفع معه نفس حقيقة الشّيء، كما لو ارتفعت ثلاثيّة الأضلاع من المثلّث فيرتفع بارتفاعها نفس حقيقة المثلّث. ولكن للمثلّث أنحاء ممكنة في الوجود، فهو قد يكون موجودا في الذّهن، وقد يكون موجودا مرسوما في لوحة، وقد يكون قد صنعناه من خشب أو حديد... فكون المثلّث، إذًا موصوفا بنحو ما من أنحاء الوجود تلك، هل عساه أن يكون مُقَوِّمًا لنفس ماهية المثلّث، أي لو أنّ الذّهن قد اعتبر المثلّث وقد رُفِعَ عنه مثلا كونه موجودا في الذّهن أو في الواقع، فهل ترتفع حقيقة المثلّث بما هي هي ؟
الجواب : كلاّ بتاتا ! لأنّه لو كان كذلك لأدرك الذّهن أنّ المثلّث الموجود في الذّهن مثلا، هو حقيقة تختلف بالماهية عن المثلّث الموجود في الحقيقة، كإدراكه لاختلاف ماهية المربّع عن ماهية الدّائرة. ولكن الذّّهن لا يدرك المثلّث في الذّهن مختلفا بالماهية عن المثلّث الموجود في الواقع، فإذًا وجود المثلّث في الذّهن أو في الواقع هو غير مقوّم لماهيته، فهو إذًا عارض له، فالوجود إذًا هو غير الماهية، إنّه عرض لها.
يتبع